مدخل لدراسة خطاب ’’ إحياء النموذج ‘

في مفهوم البعث :


يحتمل فعل بعث معنيين :
بعث بمعنى أرسل . وهو إما متعد بذاته كقولنا : ’’ بعث الله الرسل ‘‘ أومتعد بغيره كقولنا : ’’ بعث الله بالرسل ‘‘ ..
وبعث بمعنى أحيى مصداقا لقوله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام : ’’ وسلام على يوم أولد ويوم أموت ويوم أبعث حيا ..‘‘
وبما أن البعث هنا مقترن بالإحياء فهو مرادف له .. وعليه يكون معنى البعث هو الإحياء ..
نقول بعث الله الخلائق أي أحياها بعد موات.. ومنه يوم البعث أي يوم يقوم الأموات ..
وقد ارتبط مفهوم الإحياء في الشعر المعاصر بخطاب شعري ظهر مع مطلع عصر النهضة بشكل تدريجي وهو ’’ خطاب إحياء النموذج ‘‘ الذي عرف بعدة نعوت منها : حركة البعث والإحياء ، الحركة الكلاسيكية أو الكلاسيكية الجديدة ، السلفية الشعرية وشعر النهضة ..
وقد كان ارتباط هذا الخطاب الشعري بمفهوم الإحياء لأنه آثر إحياء الشعر العربي القديم واستعادة رونقه وديباجته ..
هذا يعني أن الشعر العربي قد دخل مرحلة أشبه بالموت وإلا لما كان في حاجة إلى من يعمل على إحيائه ..
يجمع الدارسون على أن هذه المرحلة – والتي يصطلح عليها ب ’’ عصر الانحطاط ‘‘ - قد بدأت بسقوط بغداد في يد المغول سنة 1258 م .. لكنهم يختلفون حول انتهائها .. فالبعض يرى أنها كانت مع دخول نابليون بونابارت إلى مصر ، والآخر يرى أنها كانت مع إعلان الدستور العثماني أواخر القرن التاسع عشر ، بينما يرى البعض يرى أنها كانت مع نهاية الحرب العالمية الأولى 1914 ..
عرفت هذه المرحلة انحطاط الحضارة العربية على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، كما عرفت جمودا وركودا في الإبداع الشعري رغم استمراريته ..
فبعد أن صار الشعر العربي في العصر العباسي إلى النضج والاكتمال وبلغ ذروته ، عاد في هذه المرحلة إلى الركود والجمود والغرق في الصنعة والتكلف واللعب الشكلي انسجاما مع الحياة المدينية الحافلة بقيم اللهو والبطالة .. وبذلك زاغ عن الذوق العربي الذي ترسخ منذ قرون وتغيرت الطبائع لدى الشاعر ولدى المتلقي على حد سواء ، وأصبح الشعر مجرد ملهاة وتسلية وشكلا من أشكال التفنن والتباهي بالصنعة ، فماتت المعاني الشعرية بجفاف العاطفة والوجدان والتركيز على عالم الأشياء وإدراكها حسيا ( شاعرية الحس ) ، واختفت البصمة الشخصية المميزة لشاعر عن آخر ( اختفاء عنصر الإبداع ) ، وانتشرت العامية ( العجمة ) بسبب ضعف اللغة ..
يعدد أدونيس خصائص شعر عصر الانحطاط كما يلي :
1 . من ناحية الاستمرار ، لم تتوقف كتابة الشعر بين 1258 و 1850 ( 650 ه – 1300 ه تقريبا ) بالإضافة إلى استمرار الحركة الفكرية ، ممثلة بابن خلدون ( 1332 – 1406 ) وابن منظور ( توفي سنة 1311 ) وابن بطوطة ( 1304 – 1377 ) . الأول أنشأ عم الاجتماع ، والثاني وضع أكمل موسوعة في اللغة ( أدونيس يقصد معجم ’’ لسان العرب ‘‘ ) ، والثالث أسس أدب الرحلة .
2 . هذا الشعر كان ذا طابع مديني حضري : اللهو ، الترف ، التأنق اللفظي الملائم للترف واللهو .
3 . وكان ذا طابع صنعي . والمصنوع ، في رأي ابن رشيق ، ’’ أفضل من المطبوع ‘‘ ، وقد قام هذا الشعر على مسايرة العصر وأهل العصر ، وعلى الكلام المأنوس والمعاني السهلة . أصبح الشاعر كصاحب الصوت المطرب يستميل الناس ، كما يعبر ابن وكيع التنيسي ، ونشأت القصيدة الأغنية الخفيفة التي توفر لذة الحواس .
4 . تطورت لغة القصيدة ، سواء من حيث بنيتها الشكلية ( إيقاعات مختلفة ضمن بنية واحدة ) أو من حيث استخدام اللغة العامية وأنواع تعبيرية أخرى ( الموشح ، الدوبيت ، الكان لكان ، الزجل ، المواليا ) .
5 . أخذت القصيدة تتحول إلى مقطوعة تدرو حول فكرة واحدة أو موضوع محدد ، مما مهد لوحدة القصيدة .
6 . التركيز على عالم الأشياء ، ووصف جزئيات الحياة اليومية .
أدونيس ، الثابت والمتحول ، صدمة الحداثة ، ص : 54 .
هكذا نفهم أن إحياء النموذج يعنى استلهام تقاليد القصيدة العربية النموذجية ( الجيدة ) والنسج على منوالها ومحاكاتها ومعارضتها ، كما يعني تجاوز شعر عصر الانحطاط وعدم الاعتراف به ..
السياق الذي ظهر فيه الخطاب : 
يبدو مما سبق أن الخطاب الإحيائي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد ستة قرون من الجمود والانحطاط وذلك بسبب تنامي الوعي الديني والقومي .. وقد بدأ خجولا مع طائفة من الشعراء لم تستطع مجاراة القصيدة العربية النموجية ، لكنه اكتمل مع طائفة أخرى بريادة محمود سامي البارودي ..


بناء تصور عن خصائص الخطاب الإحيائي :


من خلال التعرف على كون هذا الخطاب قد أخذ نعته وتسميته من فعل العودة إلى الماضي الشعري العربي ، نستطيع القول بأنه قام على أساس تقليد الشعر القديم والنسج على منواله ..
هكذا يمكن أن نتصور الشعر الإحيائي :
- غياب الوحدة الموضوعية ( الاستهلال بالوقوف على الأطلال للانتهاء إلى الموضوع الرئيس الذي قد يكون مدحا أو هجاء أو ...) .
- اعتماد نظام الشطرين المتساووين .
- اعتماد الوزن الموحد والقافية والروي الموحدين مع تصريع البيت الأول . 
- استقلال كل بيت عن الأبيات الأخرى استقلالا عروضيا ونظميا ودلاليا .
- الالتزام بعمود الشعر العربي .
حدده المرزوقي في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام كما يلي :
1. شرف المعنى وصحته .
2 . جزالة اللفظ واستقامته .
3 . الإصابة في الوصف . 
. المقاربة في التشبيه .
5 . التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن . 
. مناسبة المستعار للمستعار له . 
7 . مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما . 
( يتأكد هذا التصور أو ينتفي عند دراسة النصوص الشعرية الإحيائية على ضوء الخصائص التعبيرية والجمالية للقصيدة العربية – النموذج . )


الأسس التي قام عليها الخطاب :


قام هذا الخطاب على رفض شعر عصر الانحطاط وعلى محاكاة القديم .. وهذا نابع من موقف يقدس الماضي ويعتبره مستقرا للمثل الأعلى ، كما قام على الاعتقاد بأن الشعراء المتقدمين لم يتركوا للمتأخرين ما يقولونه ..

تعليقات