الفلسفة الثانية باك المحور الثالث: العلاقة مع الغير


لولا وجود الغير لما استطاعت الأنا تحقيق حريتها ولما أدركت طبيعة وجودها بوصفها كيان يتمتع بالمقومات الأساسية للوجود الإنساني، على هذا الأساس لا يمكن حصر علاقتها بالغير في علاقة تشييئية تُؤسس بين الذات والموضوع، إذ يحاول كل طرف السيطرة على الآخر. فالغير هو ذات إنسانية لها تجربتها الخاصة، لكنها تشبه الأنا وتختلف عنها في نفس الوقت، لذلك لا يمكن أن تنحصر علاقتهما في المستويات الأنطولوجية والمعرفية.
إن إشكالية العلاقة مع الغير يمكن أن تجد بعض حلولها في الجانب الأخلاقي القيمي الذي يؤسس لعلاقات إيجابية، وأخرى سلبية تقوم على هيمنة ذات على أخرى، أو ثقافة عل أخرى.
التأطير الإشكالي للحور:
- ما هو الأساس الذي تنبني عليه العلاقة مع الغير قريبا كان أو بعيدا؟
- ما هي أبعاد ومستويات وتجليات هذه العلاقة؟
- إلى أي حد يمكن اعتبار الصداقة شكلا تتجسد فيه المعاني الأخلاقية للفضيلة؟
المفاهيم المركزية المؤطرة للمحور:
- الصداقة: يحيلنا الحديث عن إشكالية العلاقة مع الغير على مفهوم الصداقة L’amitié، وهي اسم مشتق في اللسان العربي من كلمة الصدق، أي الحقيقة والقوة والكمال، كما تدل على الود والحب الخالصين، بعيدا عن كل نزوع نحو امتلاك المحبوب والاستحواذ عليه كملكية خاصة؛ إنها نموذج إيجابي للعلاقة المتبادلة تنبني على حالة وجودية بين الكمال المطلق والنقص المطلق؛ كما أن الصداقة كتجربة معيشة لا تقوم على الحب وحده، بل يمكن أن تتأسس على متغيرات متعددة تسم المفهوم بطابع إشكالي فلسفي.
- الفضيلة: يضعنا الحديث عن مفهوم الفضيلة من خلال إشكالية العلاقة مع الغير، داخل الفلسفة الأخلاقية خاصة وأننا ننطلق، حسب التصور الأرسطي، من اعتبار الصداقة فضيلة وقيمة أخلاقية ومدنية، تنبني على محبة الأصدقاء والخير والجمال لذاته، لذلك فهي تدوم بخلاف صداقة المنفعة والمتعة اللتين تزولان بزوال علتهما. ويصنف أرسطو الصداقة ضمن الفضائل الأخلاقية (الشهامة، العطاء الشجاعة، الصداقة) التي يكون موضوعها أفعال الحياة العملية، على عكس الفضائل العقلية التي يكون موضوعها العلم والتأمل[1].
تحليل تصور أرسطو (384-322 قبل الميلاد)
يؤكد أرسطو على أطروحة مفادها أن للصداقة أهمية في رسم علاقة إيجابية مع الغير، باعتبارها تمثل أشد الحاجات الضرورية في الحياة، وذلك ما يعلن عنه بشكل صريح في قوله "إن الصداقة هي إحدى الحاجات الأشد ضرورة للحياة"[2]؛ فالصداقة هي الماهية الحقيقية التي تربط الإنسان بالآخرين، مهما كان سن هذا الأخير ومرتبته الاجتماعية، وما يدعم هذا القول بالنسبة لأرسطو، هو تأسيس الصداقة على مفهوم "الفضيلة" ليعطي للصداقة قيمة أخلاقية عملية ضرورية في حياة الإنسان، "فبغير أصدقاء لا أحد يريد العيش حتى ولو كان ينعم بجميع الخيرات الأخرى"[3]، فالأغنياء وأصحاب السلطة العليا يحتاجون لأصدقاء لإسداء هذه الخيرات ومساعدتهم بها، إذ ماذا ستفيدهم هذه الخيرات إذا ما حرموا من ملكة إسداء الخير إلى الأصدقاء؟. إن الصداقة إذن - في نظر أرسطو- هي الملاذ الوحيد الذي يمكن الاعتصام به، في حالة البؤس والشدائد المختلفة.
نخلص من خلال هذا التحليل لموقف أرسطو من إشكالية العلاقة مع الغير، بكون الصداقة هي أسمى الفضائل التي يجب أن تقوم عيها كل علاقة بين الأنا والغير، فلا غنى للإنسان في حياته عنها إذا كان ينشد السعادة، لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد هو: إلى أي حد يمكن القبول بهذا التصور كحل لإشكالية العلاقة مع الغير؟ هل فعلا أن الصداقة بدلالتها السابقة هي الطريق السليم لتواصل حقيقي مع الغير مهما كانت طبيعته، أم أن الأمر عكس ذلك؟
مناقشة تصور أرسطو بتصورات فلسفية أخرى:
لا يمكن إنكار القيمة الأخلاقية والفكرية والتاريخية لتصور أرسطو بخصوص العلاقة - ذات الأبعاد الأخلاقية- مع الغير لاعتبار واحد، يتمثل في تجاوز التصور الفكري الذي يبني علاقة الأنا بالغير على التشييء (سارتر كنموذج "الجحيم هم الآخرون l’enfer c’est les autres")، وتجاوزه في نفس الوقت لأستاذه أفلاطون الذي يعتبر الصداقة حالة وجودية بين الكمال المطلق والنقص المطلق، لأن من يتصف بالكمال لا يحتاج إلى الغير، ومن يتصف بالشر المطلق تنتفي فيه الرغبة لفعل الخير؛ لذا فالصديق هو من يحاول البحث عن الخير والكمال، ولأن الصداقة هي محبة متبادلة بين الأنا والغير؛ في حين نظر أرسطو إلى الصداقة كقيمة عملية وتجربة مشتركة بين أناس فضلاء.
لقد نبهت الدراسات المعاصرة إلى قيمة الغير سواء كان قريبا أو بعيدا، ورفضت تهميشه ونبذه، لأنه في نهاية المطاف، لا يعدو أن يكون سوى الأنا الذي يسكننا، دون أن نشعر بوجوده، وهو ما عبرت عنه الباحثة الناقدة، والأديبة البلغارية جوليا كريستيفا Julia Kristeva في كتابها "Etranger à nous-mêmes" بقولها:"ليس الغريب -الذي هو اسم مستعار للحقد وللآخر- هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها، ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة، إن الغريب يسكننا عل نحو غريب...ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا، نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته"[4]؛ فالغير الغريب إذن، كما حددته كريستيفا، ليس ذلك القادم من الخارج أو البراني عن الجماعة، الذي يهدد تماسكها وانسجامها، ذلك أن وحدة الجماعة ليست في الواقع سوى مظهرا عاما عندما ندقق فيها، وينكشف لنا أن الجماعة تحمل في ذاتها بحكم اختلافها وتناقضاتها الداخلية، غريبا قبل أن ينفذ إليها غريب أجنبي.
استنتاج وتركيب:
للصداقة دور مهم في نسج علاقة إيجابية مع الغير، فهي بمثابة مختبر حقيقي لقدرات البشر على الوفاء والصدق، لكن يبقى هذا المفهوم غير ذي معنى إذا ما انحصر في نطاق الغير القريب، وأقصي ما عداه من الأغيار، أي ذلك الغير البعيد والغريب، مع العلم أن المواقف إزاء ما هو غريب، هو أيضا مختبر حقيقي لإمكانيات البشر على تقبل وتفهم المخالف لنا في العقيدة والثقافة بكل مكوناتها، إنه اختبار حقيقي لقبول الاختلاف، لأن ذلك المخالف لنا، ما هو في واقع الأمر، إلا القوة الخفية لهويتنا، وحين نتعرف عن هذه القوة، أي الغريب فينا، نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته، لأن وجوده يساهم في تشكيل هويتنا الثقافية؛ هناك إذن تفاعل إيجابي بين الأنا والغير، تفاعل يفرض احترام كل طرف للآخر، وهو ما يحاول الأنثروبولوجي ليفي ستروس تأكيده في كاتب "الأنثروبولوجيا البنيوية" من خلال قوله: " ليس هناك مجتمع متطور في ذاته وبذاته...بل ثمة ثقافات توصلت إلى تحقيق أعلى أشكال التاريخ غنى وتنوعا...لا يمكن لها أبدا أن تحققه عندما تكون معزولة".

تعليقات